أخبار الموقع

مُوسيقى قرط .

 




تشير ساعة معصمي الى الواحدة ظهرا أنه الآن وقت الذروة ، المدينة مكتظة في هذه الآونة ،

عربات متهالكة مختلفة الألوان والأشكال ، أحصنة ، باعة متجولون ،أطفال تحملهم أمهاتم على ظهورهم على قطعة صغيرة من القماش، ورجال يحملون حقائب وصناديق وعلى الأغلب  كانو يحملون خوفهم أيضا . 


 اعتدت أن أقف على  هذه البقعة  خائفا منذ ما يقارب الشهر عندما أخبرني كل ما حولي بأن لا بد ان أهرب  .                           أرتدي احدى معاطفي الداكنة ونظارة شمس أحاول ان اتخفى بها ممسكا بيدي مظلة متعددة الألوان ،

كانت السماء تشير بأنها ربما قد تمطر . 

 

انها المحطة الوحيدة في مدينتي الصغيرة تقع بمحاذاة القرى المطلة على النهر ، تلك القرى التي رفضت أن تنصاع  

لديكتاتورية المستعمر ، وأن تتمسك بما تبقى لها من هوية واسم ووطن ، محاولة جاهدة بأنها يوما ما ستزيحه . 

يقع على يميني بائع ذرة يرتدي ثوبا بني  محاطا بعدد كبير من صناديق الذرة المتراصة فوق بعضها  يشير اليها  صائحا "ذرة طازجة من أعالي الجبل" ويحمل بيدة سيجارة ،كانت قرى أعالي الجبل أول من  دخلت تحت حكم المستعمر  

لذا أصبحنا نأتي بالمحاصيل التي تزرع هناك ونبيعها هنا ، لم يكن يصعد هناك سوى القليل من الباعة الذين تمكنو من رؤية  حياة المستعمر ومنازلهم وعرباتهم الفاخرة ، أما نحن كنا نستمع لحكاية الباعة أو  الصاعدون خفية  أو بعض من تمكنو من العمل هناك . 

تمتاز قرى أعالي البحر بتربتها الحارقة ذات اللون البني ونسيم عليل على مدار السنة ،أجود المحاصيل كانت تزرع هناك من ذرة وفول وعدس وأنواع مختلفة من البقوليات . 

يباغتني رجلا في منتصف عقده الرابع يسأل عن رقم الحافلة التي تمكنه من الذهاب الى هذا العنوان  

يعطيني قصاصة من الورق  قد كتب بها حيا يقع في غرب المدينة  ،أشير الى الباص الواقف أمامي مباشرة أخبره بأنه يستحسن أن يسرع. 

الناس هنا أما عائدون أو راحلون أما أنا لم أستطيع ان أصنف نفسي هل انا عائد ،راحل، أم هارب كما أعتدت دائما أن أفعل ،أذكر نفسي أيضا بسبب عودتي الى هنا نفس هذه البقعة التي أعتادت خوفي، أمرر يدي داخل جيب معطفي أتأكد من وجود الظرف ،أتأكد مرة أخرى وأطلق زفير خافت وتأخذني قدماي الى اللافتة الكبيرة التي كتب بها أرقام الحافلات وأسعار التذاكر ، أصيح بصوت خافت وكانه لا مفر من ذلك ،الى شرق المدينة اذا. 

 

أشيرالى سائق الحافلة بأن يتوقف ليأخذني معه أصعد الى الحافلة بقوة ممسكا بباب الصعود بكلتا يدي ، أختار المقعد المجاور للنافذة أريد أن أتامل الطرق و المارة ، صوت الموسيقى القادمة من المسجل تشير بأن السائق كان قد عاصر زمن الحرب هنا ، يتميز كل جيل في وطني بنوع مختلف من الموسيقى ، المحاربين والجنود لهم موسيقى خاصة ، الذين عاصرو الحرب موسيقاهم مختلفة من ولدو بعد فترة الهدنة يعرفون موسيقى أخرى عن الباقي وحدهم الهاربون كان مخزونهم الموسيقي فارغ ،لذا نعرف مصائب بعضنا البعض من خلال الموسيقى . 

على مقربة مني تجلس فتاة وحيدة تسند رأسها على النافذة و تضع أقراط كبيرة بشكل كاف لجعلي لا أستطيع أن أزيح نظري من عليها  كانت الأقراط  تتراقص كلما أضطر السائق الى الانعطاف كانت تتحرك مصدره صوتا عند ارتطامها بزجاج النافذة  ،وكنت أنا اتتبع صوت ارتطامها  مكونا بداخلي مقطوعة موسيقية تحتوي على نوتات متذبذبة ،كنت قد صنعت الموسيقى بداخلي وبت أبتسم كلما سمعت صوت الارتطام ،كانت أقراط دائرية تحتوي على رسومات لأشخاص يرقصون بطرق مختلفة عن العادة أحدهم يضع يده اعلى رأسه وآخر يحاول أن يجوب الأرض مرحا وأخرى كان من الواضح بأنها ترقص على صوت ارتطام القرط على النافذة ، بل كانت ترقص على موسيقاي التي قمت بتأليفها للتو  

شرعت احدق في رقص وموسيقى القرط لمدة كافية بأن تنسيني تأمل الطريق والمارة وأطنان السيناريوهات التي كنت أضعها على السائقين والراكبين حتى الراكضين  وأحذية كل من في الباص. 

 

 

كانت الشمس قد انتصفت السماء و تشير الطرق بأن معالم المدينة القديمة أبتدأت بالظهور أصرح عاليه ،قبب مصنوعة من الحجارة وشوارع مكتظة ومتعرجة ،كانت ملامح مدينتي الجديدة قد أختفت وراء الجسر الحديدي الذي كان قد بناه المستعمر في وطني لكي يفصل بين القديم والجديد ، بين ماضينا وحاضرهم ،أستمرت المدينة القديمة في الظهور والأخرى في الأختفاء حتى بت لا ألمحها من هول حجم الصرح الأمامي لمدخل المدينة وعندها  صرخ  السائق " المحطة الأخيرة ياسادة  ،لقد وصلنا الى السوق الشعبي " 

ذهبت الى مقدمة الحافلة و مددت يدي الى السائق ممسكا بثمن التذكرة  أعطيت النقود للسائق وشرعت الفتاة ذات الأقراط  بالدفع أيضا وعندها تلاقت أعيننا وبلا قصد مني رمقت قرطيها بنظرة  وداع مطولة ثم قلت بصوت أقرب للهمس  " أقراط مجنونة"  أرتديت نظارتي وامسكت مظلتي وشرعت في الترجل من الحافلة  وشعرت حينها  بارتطام أقدامي على الأرض  لكن  ليست أي أرض بل أنها أرضي أنا . 

 

تظهر لافتة "السوق الشعبي " سوق الركام أمام باب مدخل السوق كان مشهورا بأن يطلق عليه سوق الركام تيمنا بأعداد القتلى والجثث التي كانت هناك أكواما بعضها فوق بعض كالركام، كان السوق كبيرا جدا يضم أبنيه ومحلات مختلفة وكان يوجد    في السوق كل شي ،كان مدخله كبير  ليتم نقل وأدخال البضائع اليه بسهولة ، تعلوه قبة من الحجارة منقوش عليها أحرف متداخله واجهته الرئيسية تحتوي على مجموعة من العقد المتتالية وبين كل عقد وآخر كانت هناك دوائر مزخرفة كل دائرة ولها زخرفتها الخاصة ،تلفتني أشجار الليمون الملقاة على سقف الباب أنها حاضرة هكذا دائما  صفرتها تسر الداخلين ، أحفظ السوق وملامحه و من يعمل داخله  أحفظ أروقته ومداخله منذ أن كنت صغيرا أعتاد أبي على العمل هنا قبل أن يهرب. 

 أتجاوز المدخل وأخرج من جيبي قبعة من الصوف أحكم وضع نظارتي وأحاول قليلا أن لا أعرفني كي لا يميزني أحد هنا،  أتجاوز الرواق الأول مسرعا أحاول عد الأروقة المتبقية حتى أصل ،أتفقد الظرف في جيبي الآخر أتأكد أنه مازال يرقد في سلام . 

أباشر في عد الأروقة  واحد تلو الآخر كمن  يحصي أبنائه قبل النوم ، أتأملهم كأني لن أراهم مرة أخرى وأحيانا بلا وعي مني أجد يداي تلامس الحائط أو ان عيناي تحاول أن تأخذ صورة لهم أقوم بحفظها  في ذاكرتي ربما قد تساعدني يوما على تحمل الهرب ، صورة أحاول أسترجاعها كلما وددت المرور الى ماضيي وطفولتي ،شعرت بيد  تمسك مظلتي توقفت لأرى  كانت  سيدة في منتصف العمر ، وضعت أمام عيناي صورة لفتاة صغيرة تقف أمام أحدى التماثيل  الموجودة أمام النهر تضع جدائل شعرها على كتفيها  "أبنتي هل رأيتها ، أنها فتاة صغيرة  ترتدي حذاء أحمر،فقدتها منذ مايقارب الثلاثة أيام " كانت تمسح دمع عيناها بمحارم من قماش أصفر ، أهز رأسي ب "لا"و أمضي لعد الأروقة وتأمل الحائط ، 

تصرخ السيدة من وراء ظهري قائلة "كانت تمسك يدي ثم  أختفت وأنا أرى الأقمشة ، يقول بعض الباعة بأنهم رأوها وهي تركض هربا من شيء ما ، أخاف بأن يكون المستعمر ،ربما  أختطفها أو أنه قد جرى بها مكروها ، أرجووكم ساعدووني ، فليساعدني أحد " لم يلتفت اليها أحد وهي تصرخ  ، سوى بضعة رجال كانو يضحكون على منظرها الرث وأقدامها المتسخة وخصلات شعرها المتطايرة ، كان المستعمر مشهورا بخطف الأطفال ولا سيما الاناث  من عدة  مناطق مختلفة وكان السوق من ضمن هذه المناطق . 

أكملت سيري كنت قد وصلت المخصص لصاغة الذهب ،يزدحم الرواق دائما بالنساء التي اما تبيع أو تشتري الذهب ، كانت عادتي الوقوف هنا قليلا والتأمل في لمعان الذهب المعروض خلف الزجاج  لبضع ثوان  

ثم أمضي  لرواق العطارة والتوابل التي كانت رائحته تدغدغ أنفي فيصيبني العطاس ، يأتي  رواق الأقمشة المفضل  لدى امي الذي يوضع أمامه أقمشة من كل نوع ولون ، الأحمر والزهري والأصفر والأقمشة المطرزة باليد والمستوردة من الهند ومتاهه من العجائب كما كنت أقول في صغري ، لككني هذه المرة لم أفكر سوى في الفتاة الصغيرة ذات جدائل الشعر الهابطه على الكتفين  ،  وهي تركض هربا كانت تهرب من من ؟ 

 

 

 

أمضي بضع خطوات لأصل الى وجهتي رواق المجلدات والكتب أقف لثوان قبل أن ادخل مكررا مايقال "لا أحد يشك بوجود رسائل من الجنود المقاومين للمستعمر في أماكن الورق " أدخل الرواق أمضي للمحل الثالث  شمالا  ،أرفع رأسي أتأكد من أسمه رغم أني أحفظه عن ظهر قلب وأفتح الباب وأدخل . 

أزيل قبعتي ونظارتي ، يرمقني بائع الكتب بنظرة غير مفهومة، يحييني قائلا بصوت منخفض "من كان أباه هاربا فسيهرب أيضا ، تفضل يابني كنت أعلم بأنك ستعود " 

 أمد يدي داخل جيبي مخرجا الظرف المتسخ  وأقول "عدت لأسلم هذا ، هنا كل المعلومات المطلوبة، حتى الزمان والمكان " لم أنتظره ليجيب أرتديت قبعتي وفتحت الباب لأواصل هربي ، لأجد صوته خلفي يقول "أتمنى بأنك حفظت العهد و لم تقرأه " 

كان من المحرم على السادة الهاربون الذين يشغلون قطاع تهريب الرسائل ، المجوهرات والأسلحة  رؤية ماتحويه فحوى الصندوق أو المظروف كان يجب علينا تسلميه فقط . 

بمجرد خروجي من رواق الكتب سمعت ضجة وصراخ وصوت عربة الأسعاف وأناس تمشي وتجيء وأطفال تبكي  

سرعت خطواتي متجها لكوم البشر المجتمع، للوهلة الأولى كنت قد ظنت بأن أحد قد رآني وأنا أعطي بائع الكتب الظرف أو أنه هناك من ميزني فبلغ عني للحصول على بعض النقود فكما نعرف بأن التبليغ عن الهاربين يجلب ثروة  

لكن لم أرى فور خروجي من الرواق عربات المستعمر التي يأخذوننا بداخلها قسرا بعد ان قامو بوضع الأصفاد علينا ووضع اقمشة حول اعيننا لكي لا نرى ولا نعرف بأي أرض سيتم الالقاء بنا ، بل رأيت جموع البشر أمام رواق التوابل فضللت أمشي اليه ، كان الطريق مزدحما والناس في حالة خوف وصدمة  حتى رأيت مالم يكن في الحسبان   

طفلة ذات أربعة عشرة عاما مرتدية حذاء أحمر ملقاة على الأرض بجانب رصيف المشاة ملقاة هي وجدائل شعرها  ببنطال نصفه ممزق ونصفه الآخر يرشح دما في أماكن مختلفة وعيناها مغطاة بقماش أسود  

تنبهت لصوت يصرخ  كانت  تلك السيدة التي أمسكت مظلتي ذات الشعر الأشعث  ، وكانت تبكي ثم  تضحك لتظهر سنة ذهبيه على أطراف فمها  ثم تصرخ  فتعود لتضحك فتقول "أرأيتم ماذا فعل المستعمر بأبنتي ، أبنتي ستنجب طفلا أين الزغاريد يا نساء سأصبح  جدة  ، سيأتيني طفلا ". 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

No comments