أخبار الموقع

شرفتي وشاطئ المدينة .


                                   



مستلقية على فراش من صوف  ، في شرفة منزل والدي القديم .          

سياج الشرفة متآكل ،يصبغ يداي بلون بني قاتم كلما وضعتمها عليها .

أطراف الفراش  نصف محترقة اثر عادة كان يفعلها ابي بأن يقوم باطفاء السجائر عليها .

الذي أعتاد أيضا أن يقطن هنا  قبل أن تغريه روما بشوارعها وكنائسها الجميلة ، فيوضب بكرات الصوف

متعددة الألوان داخل شنطة ظهر صغيرة ويذهب  .

أتخذ  حياكة الصوف مهنة له منذ صغره أعتاد أن يعمل في محل  والده ، القابع في سوق مصوع الشعبي  ،

واضعا بكرات الصوف على قدمه اليمنى ممسكا أبرة الحياكة بيده اليسرى  ، يلف الخيوط على أصابعه  بشكل متكرر مكونا  عقدة  بعيدة عن طرف الأبرة

ثم يعيد تكرار السابق.

 المنزل مكون من ثلاث غرف في ضواحي المدينة ،كنت قد أتيت هنا مره واحدة قبل عشرين عاما

لم يتغير المنزل عما كان في ذاكرتي ، الغرفة الأولى بلا باب والأخريات بباب خشبي موارب كان قد تآكل بعضه

الأفرشه الصوفيه على الأرض  مكتسية أغطيه مشجرة كما لو أنها تستعيض بالربيع غطاء عن  كل الفصول   ، ووسائد ملقاة بعضها فوق بعض بشكل عشوائي .

الممرات طويله وضيقة مزينة بلوحات وصور وكتابات شعرية .

صورة والدي داخل اطار نحاسي  ، معلقة على الحائط المقابل لباب الشرفة ،

كان مرتديا قميص بأكمام طويلة وبنطال يزداد اتساعا عند الساقين ، لحية كثيفة وشعر أشعث كثير يحاول أن يلامس السماء،عيناه سوداء منتفخة الأجفان ، تعلوه نصف ابتسامة .

خلفه شاطئ مصوع، رمال ذهبية تفترش الأرض تتخللها  الحجارة وبعض أعشاب البحر المتباعدة .

البحر زرقته متدرجة ، الأبيض ثم زرقة مختلطة برمال البحر ثم الأزرق الفاتح منتهيا بزرقة داكنة ،

السماء ملبدة بالغيوم تقاطع أفقيتها الطيور والمباني العالية .

ممسكه بيده اليمنى فتاة باكية ، ترتدي فستانا كحلي  قد تطايرت أطرافه وشعر مجعد طويل ملقى الى نصف ظهرها ،

  بيدها دمية صغيرة ذات ثلاث أرجل مصنوعة من خيوط صوفيه .

 

 التقطت هذه الصورة عند زيارتي االأولى لمصوع ، مازالت تأتيني ذكريات ذلك  اليوم

  كل صباح عند ممارستي  لتمرين عصر الأسفنج الذي أتبعه مع ذاكرتي بأن ألتفت لكل لحظاتي التي أستطيع تذكرها من شتى مراحلي العمرية ، مراهقتي ،صباي وطفولتي

               

كنت أبكي  قبل دقائق من أخذ الصورة ، ثم أمسح مدمعي بأحدى أرجل دميتي لأعود للبكاء .

خفت أن يهيج البحر خلفي مكونا أمواجا عاليه شديدة الزرقة ، لتشدني من أيدي أبي بسرعة لتسحبني  للداخل.

في حركة غير ملحوظة تأخذني  ، فأصرخ ولا يستطيع أن ينقذني  احد من أيادي البحر

 الباطشة فيبتعلني كما ابتلع أمي  .

 لم يكن احد الواقفين معي يعلم سبب بكائي ، رجح أبي بأني أبكي خوفا من الكاميرا  ذات الأرجل السوداء الكبيرة ،

 وأخذ يخبرني بأنها لن تفعل بي شيئا ثم أنه  يجب أن لا أخاف وهو معي ، وأخذ يقبل جبيني .

 أخبرني المصور في ضجر سألتقط الصورة ياأبنتي هيا كفي عن البكاء ،

 أتراها كانت خائفة لأنك لم تكن معها ، وددت أن أخبر أبي  ربما الخوف من ابتلع أمي وليس البحر ، لكني واصلت البكاء وألتقط المصور هذه الصورة الوحيدة لي في ارتريا وأنا أبكي.

 

أعود الى شرفتي الى دفتري المفتوح فوق الفراش الصوفي الذي تسطع الشمس فوقة وانعكاس  أشجار المانجروف

الرطبة ،مكونا رسومات متداخلة غير مفهومه على صفحاته ،

 تفوح رائحة شاي القرفة والزنجبيل محاولة ان تزيل رائحة البحر من أنفي ،  الشموع حولي متباعدة كل شمعة مضاءة رغم اننا في ساعات الصباح الأولى  لكنها طقوس الكتابة الخاصة بي ،

يتصاعد بخار الشاي

أنفث ، كي أراه متباعدا يختفي بين جزيئات الهواء .

 أمرر يدي على الأرض ممسكة ببقايا الشمع الحار حتى يملئ يدي يلسعني  لكنه يشعرني بلذة غير مفهومة

.

لا رغبة لي في الكتابة اليوم ، تحرضني الأشياء  الطبيعية،

 الأشجار الرطبة المتباعدة عن بعضها ،  يفصل  بينها بناية أو ناصية شارع  .

الأشجار هنا  مطأطأة الرأس ، عجوز  تحمل جذورها في صمت الم تراب وطني.

رائحة البحر الغريبه التي تدخل الى اقصى نقطة في انفي أشمها لتذكرني برائحة شعر أمي

 

شعرها شديد السواد ،  جديلتين من منبت الشعر الى منتهاه .

  ذكرياتي وهواجسي  ،

المشهد المتكرر للبحر  وهو يحاول أن يبتلعني  .

ماذا ان عاد  للنيل مني   مكشرا عن أمواجه الهائجة خلفي ؟

أو أن أمي  أشتاقت لي فطلبت منه رؤيتي؟

 

تحرضني الأشياءالأخرى أيضا  بأن لا أكتب،

 يتساقط المطر على شرفتي أمد يداي ممسكة ببضع قطرات من الماء ويتخلل الباقي أصابعي

يغسل السياج من تآكله فيملأ حواف الشرفة بالبني القاتم ورائحة الصدأ .

 

يأخذني المطر الى  مينا  ، الى ساحة روما الكبيرة

 الى قميصه الأخضر  الذي كان مبللا  بفعل المطر

 كنا  نركض  هاربين من تساقط المطر الشديد  فأختبئنا داخل كنيسة أثرية .

الى أصابع يداه وهي تلامس مفاتيح البيانو ، تمايل جسده مع الموسيقى الكلاسيكية التي كان يدرسها

ايقاع جسده  ، حركة قدمه ، القلادة ذات الخيط الأسود التي  كان يرتديها تلك  الشامة التي تتوسط خده الأيسر

تناثر شعره على عيناه ،

  يعقيه عن  الرؤيه  فيرفع رأسه ويحركه الى اليمين قليلا ثم يبتسم .

الى لقائنا الأخير في روما ، يقبلني يمسك يداي يضمها الى صدره  و يخبرني بأن لا أخاف وطني .

 

أتراه الآن يعلم بأن هواجسي قد هاجت محطمة كل مافي داخلي ،  دوامات أعصاريه أجتاحت المكان

تحاول تحريك مابداخله ، تطاير فتات من ذكريات لا أريد  الألتفات لها .

 

يزداد تساقط المطر أطلب منه أن يغسلني ، أمرر يداي الى شعري أحاول أن أغسل أفكاري فيمتلئ بالبني القاتم.

 أعود الى فرشتي أجلس القرفصاء  ، أمسك القلم أدفع به الى الحائط الأمامي  ، يرتد الى يدي أفعل ذلك مرات كثيرة .

مكونه  "غضب الحائط " ،  مقطوعة باخ  الموسيقية.

أمسك عود الثقاب  أشعل سيجارتي ، أضعها بين شفتاي وأخذ نفسا من الدخان ادخله الى صدري

يخرج من فمي غيمة دخان كبيرة .

 

أفكر في وطني الذي أزوره للمرة الثانية بعد طول غياب 

أفكر في خوفي منه ، كخوفي من كل الأشياء التي لا أعرفها

عند هبوط الطائرة ، عند نزولي على الأرض فأختل توازن قدامي لأسقط على يدي  أظن بأن من هناك أبتدأ خوفي

منذ لحظة دخولي الى سيارة الأجرة،  يخبرني السائق عندما يعلم بأني قد أتيت من روما  بأني لن أستطيع الصمود هنا

لشهر واحد

عندما وصلت الى باب منزلي ورأيت لافتة حديدية كتب عليها "منزل ابراهيم الصوفي    "

قد تراكم عليها الغبار والحشرات الصغيرة فأحسست بخوفي .

 

أعود لأمسك قلمي الملقى على الأرض ، أذكر نفسي بأن الكتابة هي ما أحتاجه الآن لكي أنجو

بأن أهرب من أفكاري وهذياني اليها ،

أكثر شيء أحتاجه الآن أن أكتب لماذا أهرب اذا؟

أحتاج أن أنسى قليلا ، أتذكر كثيرا

 وأن أعيد ترتيبي ، يجب ان ألقي بمخاوفي على الورق أن أتركه هو يتعامل معها يرتبها كيف يشاء.

 

أشد رباط جأشي وأحاول ان أهم بالكتابة ، أن أفضي لدفتري بكل شيء  مثلما أخبرت مينا ونحن على  أطراف السرير ، بأني سأذهب الى ارتريا لأجد نفسي .

 

ربما أحاول أن ألقي كل بعثرة أفكاري على ورقي  ، وأطلب منه أن يعيد صياغتي .

أن يريني جهاتي التي فقدتها ويعيد ترميم أركاني .

تأبى أصابعي أن تكتب حرفا اذ أنها الأخرى تخشى هذياني .

أفكر بأن أرقص لأفكاري في محاولة مني لأغوائها حتى تنصاع لي .

أو أعيد سماع الموسيقى الكلاسيكية حتى أحرض الألهام أن يداهمني .

 

أقرر أن أمسك القلم  بأطراف أصابعي ، أخذا نفسا من السيجارة ، ثم نفسا من رائحة البحر .

أتجاوز عدة سطور ،  أكتب على السطر الرابع .

 

"يقول مينا  بأني أخاف وطني

لكني أقول ،

 فتاة تحب المطر لكن تخشى البحر "

أخذ نفسا من سيجارتي لأطفأها على أطراف الفراش الصوفي كعادة ابي .


No comments